“يجب على الناس معرفة أن للحرية ثمن كبير لا يضاهيه شهيد ولا دم ولا أرواح ولا مال” بهذه الكلمات وجه الفنان محمد محسن عطروش رسالته للشعب اليمني في مقابلة تلفزيونية في الذكرى 45 لعيد الاستقلال اليمني من الاحتلال البريطاني الذي احتل اليمن لأكثر من عقد من الزمن.
“عطروش” صاحب الأغنية الشهيرة (برع يا استعمار) التي يصل عمرها إلى 60 سنة وما زالت عالقة في ذهن اليمنيين، وتعتبر الأغنية أيقونة فنية نادرة مقارنة بالأغاني الوطنية التي ظهرت في تلك الفترة؛ لأنها جسدت رغبات شعب الجنوب اليمني آنذاك وكان مجسدها فنان حقيقي يعيش كلماتها، ويعطيها مشاعره فالشيء المعاش دائمًا يكون صادقًا ومؤثرًا.
البساطة والالهام
(برع يا استعمار) هذه الأغنية الوطنية التي سمعناها وحفظناها كما أسمائنا لم تكن مجرد أغنية عادية فبمعانيها البسيطة وكلماتها السهلة استطاعت أن تحرك مشاعر الناس وتدفعهم نحو التحرر من الاستبداد وتوجه رسالة للمحتل عنوانها أخرج من أرضنا وعد من حيث جئت فنحن لا نقبل الاحتلال.
يقول الشاعر “طه الجند” أن ما يجعلها عالقة في أذهان اليمنين هو وضوحها وجمال أدائها الصداح بصوت “عطروش” وأنها جاءت في لحظة مناسبة وهذا هو الفن القادم من أحلا الناس والمرتبط بهم وعلى كل حال تبقى أهميتها ليرددها الناس في المناسبات لأنها عبرت عن فترة الانبعاث وزمن التحرر والأحلام الكبيرة إذ تمكنت ثورة أكتوبر من توحيد السلطنات والمشيخات في الجنوب وألغت التوريث والاقطاع وساوت بين الناس وهو إنجاز كبير وغير مسبوق في تاريخ الجزيرة العربية وهذا أمر شديد الأهمية ولن ندرك جمال هذه الأغنية وصدقها إلا إذا حاولنا أن نعيش أجواء تلك الفترة.
ترياق
إن الأغاني الوطنية أشبه بترياق تنعش النفس وتخاطب الغريزة وتبعث في الروح ضوء يلاشي الظلام، وتمثل المنهج الذي يمشي الناس عليه لأنها ترتبط بالوطن والحرية والاستقرار.
كان عطروش يغنيها بروح الثائر الملتهب على وطنه، وكان صادقًا في الحانه فكانت تخرج الكلمات من فمه وكأنها رصاصات تقتل المحتل وتعيده إلى موطنه، وكلما كان الناس يسمعوها تشعل في نفوسهم السخط نحو المحتل والرغبة في الخلاص منه، وما زالت هذه الأغنية حاضرة في أذهاننا وكلما نسمعها تحيلنا إلى حب الوطن ودحر كل من يحاول العبث فيه.
الفن والثورة
وفي هذا الصدد يقول الموسيقار “جابر علي أحمد” إن الأغاني الوطنية ظهرت حينما تفجرت ثورة سبتمبر في شمال الوطن وأكتوبر في جنوب الوطن، ومع هاتين الثورتين راح الفنانون يشحذون هممهم الفنية لتقديم أغاني تحث الشعب على الالتفاف مع الثورة.
وبالنظر إلى ما قدمه الفنانون اليمنيون في هذا المضمار تبرز أغنية ( برع يا استعمار ) للفنان “محمد محسن عطروش” الذي كان متأثرا بالخط السياسي القومي الذي انتهجته الجبهة القومية التي قادة ثورة أكتوبر، وفي ظل هذا المعطى قدم “عطروش” هذه الأغنية التي ألهبت حماس اليمنيين لتقديم المزيد من التضحيات للخلاص من الإحتلال البريطاني لتبقى أغنية ( برع ياستعمار ) عنوانًا ثوريًا هامًا لتلك المرحلة من تاريخ بلادنا.
الحماس والخلود
من جهته يقول الفنان الشاب سامي غالب إن السبب الرئيسي في بقاء أغنية (برع يا استعمار) عالقة في أذهان اليمنيين هو أنها كانت الشرارة الأولى في إيقاد شعلة الثورة الجنوبية ضد الاحتلال البريطاني في مطلع الستينات من القرن الماضي، ففي تلك الحقبة الزمنية كان من الصعب أن يغني فنان ضد الاحتلال وهذا دليل دامغ على بشاعة الاحتلال ومدى تسلطهم على الشعوب، وتكميم الأفواه، ولكن الفنان عطروش في حينها كان ملتهب للحرية والتخلص من الإستبداد وهذا ما شجعه على تسجيل تلك الأغنية التي غناها بحب وإخلاص لبلده، وعند إذاعتها عبر أثير إذاعة (صوت العرب) آنذاك إستقبلها الشعب بقلوب مؤمنة بحب الوطن وبمشاعر وطنية ألهبت الحماس لدى الثوار في أرض الجنوب، وسخنت الذات الوطنية القومية الدافقة وخلّدت الحدث التاريخي.
ويتابع إنه في سيكولوجيا الإنسان نجد من الطبيعي أن تعلق في ذهنه أغنية معينة حتى إن كان سماعه لها مجرد صدفه إذا تزامنت تلك الأغنية مع حدث معين فيتأثر بالأغنية وفق الحدث المصاحب لها، وهذا يعد من الأسباب التي تجعل بعض الأغاني عالقة في أذهاننا لسنوات عديدة.
المطاردة
كانت (برع يا استعمار) أول أغنية يمنية وطنية ضد الاحتلال البريطاني وقد انشرت أقاويل حول الأغنية حيث قيل أن الفنان غناها بعد خروج الاحتلال، ولكن الصواب أنهُ غناها قبل ذلك حسب حديثه في إحدى المقابلات التلفزيونية وكان يطارد في شوارع الشيخ عثمان من قبل جيش الاحتلال، فكان الناس آنذاك يخفونه في منازلهم خوفًا عليه من أن تغتاله عساكر المحتل، وبعد فترة من إصدار الأغنية هرب إلى مصر لأن عساكر الاحتلال كانت ما تزال تبحث عنه.
فنان الشعب
لقب “عطروش” بفنان الثورة والشعب وهذا اللقب لم يكن من أي جهة حكومية بل من الشعب نفسه حيث يقول عطروش في مقابلة له “إن لقب فنان الشعب والثورة لم يكن ملموس أي الحصول على ميدالية أو رصيد مالي بل كان قيمة معنوية من الشعب أعتز بها إذا حافظت عليها وبقيت تعبرش عن هذا الشعب، والشعب هو مصدر إلهامي وهو نهاية مطاف أعمالي به وسعادته أكون سعيدا”.
حقيقة الكلمات
أختُلف كثيرًا عن شاعر الكلمات حيث يقال بأنها من كلمات الشاعر عمر عبد الله نسير إلا أن نقاط تواصلت مع أشخاص قريبين من الفنان لمعرفة حقيقة الكلمات ليؤكدوا أنها من كلمات الفنان عطروش وألحانه وغناها وصدح بها من (إذاعة تعز) و(صوت العرب) قبل ثورة أكتوبر.
تقول كلمات الاغنية
برع يا استعمار برع
من ارض الاحرار برع
برع والا الليلة
يكويك التيار
تيار الحرية
تيار القومية
برع برع برع برع
برع يا استعمار
تيار الجبار
خلا شعبي ثار
خلا دا الجنوب
يشعل كالجمرة
تيار الجبار
هوه نفس التيار
حطم لاستعمار
في مصر الحرة
تياري بركان من اجل الانسان
اشعل في ردفان نيران الثورة
واللي نصر ناصر هو با ينصرنا
واللي بنى الظافر هو اللي ايدنا
طيارتك يا استعمار ما تفزعني
ولا تاجك والأموال تغريني
اما ظلمك يا قرصان ايقظني
ولا سحرك بعد اليوم يعميني
برع اقولك برع
شعبي ما با يذعن
برع اقولك برع
ارجع بلدك لندن
برع برع برع برع
برع يا استعمار
منذُ ما يقارب ستون عامًا والأغنية لم تمت، مات المناضلون والثوار والشعراء ومات قادة الاحتلال وخرجوا من اليمن صاغرين مهزومين وهي لم تمت لأنها حية خالدة وستظل كذلك إلى الابد لأنها أرادت أن تعرف النور، والنور لا يموت مهما كانت المتغيرات.
الملف الشخصي للكاتب
- كاتب
آخر مقالاته
- تقريريوليو 26, 2024ذوي الحكمة(المجانين) مرمى لسخط المجتمع.
- استطلاعيوليو 16, 2024التاريخ والطبيعة يمتزجان في “عنة” وتجمعهما العدين
- أهم المقالاتيوليو 16, 2024“الفن اليمني القديم إرث أجدادنا… سهى المصري الفن اليمني قريبًا سيكون في العالمية
- آراء وتحليلاتيوليو 14, 2024من الاحتلال إلى فنان الشعب والثورة… عطروش فنان الأغنية الخالدة برع يا استعمار.