Image

مذكرات الجنون…

(مذكرات الجنون) و (ظلامٌ مَرئِيّ) هما عنوانان لكتاب الروائيّ والكاتب الأمريكي (وليام ستايرون)، نُشر في العام ١٩٨٩م، ويُعتبر أكثر كتبه رواجًا وتأثيرًا، وقد استوحى عنوانه الأصلي من قصيدة (الفردوس المفقود) للشاعر الإنجليزي (جون ميلتون)، وأَلَّف هذا الكتاب محاولًا اختصارَ رحلته الشاقة والمضنية مع داء (الاكتئاب) التي وصلت به إلى حافة الانتحار، ساعيًا من خلال كتابه هذا إلى تقديم أدقّ تفسير ممكن لهذا الداء الذي يصفه بأنه اضطرابٌ في المزاج، يُصاحبه ألمٌ بالغُ الغموض، وشديدُ المراوغة في أسبابه وطريقةِ ظهوره بالذات، ومع أنه يكاد يستعصي على الوصف، إلا أنه يظل أيضًا صعبَ التوضيح والتفسير لكل مَن لم يختبروه ويشعروا به في أقسى أشكاله، وهو يَرى أنّ اختزال “الاكتئاب” بهذه الكلمة لا يعطيه -كما يجب- معناه الحقيقي الرهيب، ويَرى أنه عاد مِن حافة السقوط كضحية لهذا الداء كي يَروي للعالم قصته، يقول: (باعتباري أحد الذين عانوا من هذا الداء حتى أصبَحتُ على حافة الموت، فسوف أسعى بكل جهدي كي أجد تسميةً مناسبةً له، تكون فعلًا أكثرَ لفتًا للانتباه)، ونراه في سياق الحديث عن التسمية يتمنى لو أنّ مُصطلحَ (العَصف الذهني) لم يُستخدم لحالةِ الإلهام الفِكري، لأنه كما يَرى الأنسب للتعبير عن حالة اعتلال المزاج لدى مَن بَلَغوا مرحلةَ “العاصفة” مِن هذا الداء، وهي كما يقول زوبعةٌ حقيقيةٌ، يُسمَع عواؤُها داخل الدماغ، مما يجعل وصفَها شيئًا فوق التصور واللغة، ثم نجده يعترف أخيرًا أن هذه الكلمة “الاكتئاب” يبدو أنها ستظل تُثقل كواهلنا، وليس أمامنا في الوقت الحاضر إلا استعمالها ريثما نجد تعبيرًا أدق منها.

ولأنه وصل في رحلته إلى حافة الانتحار كما يقول، واستطاع في اللحظات الأخيرة أن يتراجع، نراه يقتبس إحدى المقولات الفكرية للفيلسوف والروائي الفرنسي (ألبير كامو)، أوردها هذا الأخير في مستهل روايته (سيزيف)، يقول فيها: (ليست هناك سوى مشكلةٍ فلسفيةٍ وحيدةٍ وخطيرةٍ فعلًا، ألا وهي “الانتحار”.. فالحُكم بأن الحياة تستحق أن تُعاش أو لا تستحق، هو بمثابة الجواب عن السؤال الأساسي الذي تطرحه الفلسفة)، ثم يُورد بعدها أسماء كثير من المشاهير الذين اكتأبوا ثم أقدموا على الانتحار، كما يشير إلى حقيقةِ أنه على الرغم من انتشار الاكتئاب على نطاقٍ واسع، فقد بات هناك اقتناعٌ كبير بأن الأشخاص أصحاب الميول الفنية والأدبية وخاصةً الشعراء منهم، هم الأكثر عرضةً للإصابة بهذا الداء، كما يؤكد في الوقت نفسه أنه لا يمكن لأحد أن يَعرف أسباب وبدايات الاكتئاب، أو التكهن بدوافع الانتحار، لأنها تراكمية، ويوضح أنه حين يقترب المرء من حافة الهاوية في الاكتئاب، أي مباشرةً قبل المرحلة التي يتحول فيها من التفكير إلى المحاولة، يرتبط إحساسُه الحادُّ بالفقدان بإدراكٍ مفادُه أن حياته تنزلق من بين يديه بسرعة رهيبة، وتظهر لديه سلوكياتٌ شرسةٌ للتعلق بالأشياء، فمجرد تغيير مكانِ كتابٍ أو قلمٍ من مكانه يصبح تذكيرًا قويًّا له بعالَمٍ سريع الزوال، ويسبب له الذعر الشديد والهلع، وهو ما يُسمى بـ(هَوَس التَّمَلُّك)، كما يسرد العديد من الأعراض المتقدمة للاكتئاب، منها على سبيل الإيجاز: (الشعور بانعدام القيمة)، و(الخَدَر العاجز)، و(هَفوات الذاكرة)، و(الإنهاك الدائم والخمول)، و(انعدام الرغبة)، و(الفوضى الذهنية)، و(اللامبالاة بالجَمال).

كما أن المصاب بالاكتئاب يعاني أكثر ما يعاني من الأرق وصعوبة النوم، وذلك ينعكس على تصرفاته، ويَظهر على شكل نوباتٍ من الهلع والارتياب والخوف، ويؤثر على نشاطه الروحي والجسدي، وهذا ما جعل ستايرون في غمرة هذه الاضطرابات يردّد بيتًا شعريًّا لـ(بُودلير)، يقول فيه: (ولقد أحسَستُ بِرِيحِ جَنَاحِ الجُنُون)، ويُشبه الكاتب أصحاب هذا الداء الذين يُطلَب منهم مخالطة الناس، بأولئك الجنود العائدين من المعركة بإصاباتٍ غير قاتلة، حيث يعود أحدهم ويُضطر إلى ممارسة واجباته الاجتماعية والمشي بين الناس تَجاسُرًا لا رغبة، لكنْ لا أحدَ يَشعر أنه يَحمل سَرِيرَ مساميرِهِ وعذاباتِه معه أنّى ذهب؛ ومِن مظاهر الاكتئاب كما يرى ستايرون حبّ الاعتزال، وتجنب الحديث بالمشاعر، فالنطق لدى المصاب بالاكتئاب -ولو بكلماتٍ بسيطةٍ- يصبح معاناة رهيبة، ويَرى أيضًا أن من أسباب الاكتئاب ما يُسمّى بـ(الحِدَادِ الناقص)، وهو أن يصاب أحدهم في طفولته بموتِ عزيزٍ له وهو لم يبلغ بعدُ سِنّ الإدراك والإحساس بهذا الفقد وأثره، ونتيجةً لذلك يتجاوز الطفلُ هذا الفقدَ دون أن يتطهر منه، ما يسبب له انتكاسة متأخرة تداهمه دون معرفةٍ بها وإدراكٍ لدوافعها، كما أن لتناول المخدرات، والعامل الوراثي، دورًا لا يستهان به بين مسببات الاكتئاب، ولعل أخطر المراحل وأكثرها وحشيةً في حالة الاكتئاب الحاد هي تلك المرحلة التي ذكرها الكاتب بقوله: “ومن بين الظواهر التي لاحظها بعض الأشخاص حينما أصيبوا باكتئاب حاد هي الإحساس بأنّ ثمة ذاتًا ثانيةً ترافقهم، وهي بمثابة مُراقِبٍ يُشبه الشبح، ولكنه لا يشارِك شَبيهَهُ في الخَرَف، ويمكن أن يراقِب رفيقَه بتبلُّدٍ مُفعَم بالفضول وهو يصارع الكارثة المحدقة، أو يقرر الإقدام عليها”.

في الجزء الأخير من كتابه، وبعد أن عاد إليه وعيُهُ قبل تنفيذه ما كان عزم عليه من الانتحار، يذكر ستايرون رحلةَ لجوئه إلى العلاج، ودخوله المستشفى المتخصص بعلاج الأمراض النفسية والعصبية، رغم أنه كان ضد هذا القرار في السابق، حيث كان يخاف أن يسبب له وصمة، وقد وجد في المستشفى حسب تعبيره “الوقت والعزلة” اللذَين يرى أنهما كانا المداويين الحقيقيين له، كما اكتشف هناك أنه كان يستخدم عقارًا منومًا بجرعةٍ كبيرة ومحظورة بالنسبة لعمره، وكان له تأثير كبير في أفكاره الانتحارية واكتئابه، وقد مَثّل العلاج بالفن والموسيقى والكوميديا له أيضًا مساعدًا ملموسًا للتشافي من حالته، كما أن العلاج بالمحبة -كما سَمَّاه- يبقى هو الدافع الأكبر لتجاوز هذا الداء، يقول: حينما تكون في بر الأمان وتريد من شخصٍ يَغرق أن يَبتهج، فإن طَلَبَكَ هذا يَرقى إلى مستوى الإهانة، وقد تبيّن مرةً بعد أخرى أن التشجيع إذا كان مُثابَرًا عليه، والدعم إذا كان مخلِصًا فإن إنقاذ الشخص الذي يتهدّده الخطر يُصبح ممكنًا في الغالب، لأن معظم هؤلاء الذين يقعون في براثن الاكتئاب بأبشع أشكاله يعيشون حالةً من اليأس غير الطبيعي، وهذا ما يتطلب من المحبين والأقرباء أن يُغدقوا عليهم حبًّا جمًّا حتى يقتنعوا بقيمة الحياة.

الملف الشخصي للكاتب

يحيى الحمادي
كاتب وشاعر يمني
آخر مقالاته

Scroll to Top