Image
  • Home
  • استطلاع
  • التاريخ والطبيعة يمتزجان في “عنة” وتجمعهما العدين

التاريخ والطبيعة يمتزجان في “عنة” وتجمعهما العدين

الساعة الخامسة والنصف يبدأ الصباح بالتنفس ويتلاشى الظلام ببطء كأنها لحظاته الأخيرة في الوجود وتبدأ الشمس بالتسلل بإرسال أشعة من ضوئها بصورة نسيج تتزين في السماء لحياكة يوم جديد في الأرض وحياة الإنسان، كانت هذه تفاصيل يعيشها فتى قروي ويحاول تجسيدها في ذاكرته ويلتقط كل شيء بنظره، حيث بدأت سنابل الذرة تتمايل أمامه وكأنها تحاول أن ترقص معه على إيقاعات الرياح الخفيفة، وصوت خافت يصدر من مذياع منزل قديم يتسلل إلى الأرض فترددها الجبال وتوزعه على الجدائل بلحن شجي “أخضر جهيش مليان حلاه عديني”، فتتسارع السنابل للسيطرة على نظرك وروحك فتقترب منها فترى قطرات الندى المتناثرة على الأرض وقد امتزجت برائحة الطبيعة، لتجعلك تطلق خيالك نحو التأمل حتى الارتواء.

“عنة” والطبيعة.

ظل الفتى يحلق بنظريه مستمتعًا وهو يشاهد حياة العصافير التي كانت تعزف ألحانها وتتفنن في صناعة عشها الجديد، ويريد أن يستجمع كل التفاصيل، فقطعه صوت بوق السيارة ليخبره أنها موعد رحلته إلى الطبيعة التي كان يحلم بزيارتها.

ركب السيارة من نوع “صالون ليلى علوي” هكذا سمعهم يطلقون عليها. بدا الجو لطيفًا برفقة الركاب والحديث عن جمال المحاصيل والسيارة تشاركهم عن طريق الراديو “بكر غبش شفته الصباح بعيني”. الوجهة تقترب وقلب الفتى يخفق، بدا كل شيء مختلف، جبال تكسوها الخضرة بكثافة ولا ترى منها سوى الجمال المتناثر في كل أرجاء المكان. لوح السائق بيده “هذا وادي عنة سنقف هنا” اندهش الفتى وراح يستمتع بالنظر إلى كل شيء، شجرة الزيتون بادرته بالحديث “لقد أقسم الله بي، تذوق وتعرف على معنى الزيتون.”

جانب من وادي عنه تصوير/ طاهر الفضلي

الفواكه

كان الماء يعزف سمفونيته العذبة التي لا تنقطع على مدار السنة، فتجد قصب السكر يتمايل وكأنه يحاول أن يعانق الماء. تمشي قليلًا فترى المانجو يسيطر على أغلب الأماكن، تقترب منه فيشعرك بالسعادة لكثافة أشجاره، وأنت تحاول أن تتخطاه، يقول لك “تذوق فقد خلقت من أجلك” تحاول أن تغادر المكان فلا تستطيع فأشجار الفواكه متناثرة في كل مكان، ومنها التفاح والعنب والموز والنخيل، فالطبيعة هناك مليئة بالخير لتستذكر أغنية “هل في قطر مثل اليمن جنة أو في دبي وديان مثل عنة”.

والأخضري من العدين

غادر الفتى وادي عنة ووقف في تلة تطل على الوادي ليراقب كل شيء، كيف كان الضباب يخيم على المكان ولا يغيب عنها، الأشجار الكثيفة والنادرة، راعي يدلل أغنامه في المياه، أمراه سمراء تحصد الشام، عجوز مسن يلبس عمامة بيضاء ويضع المشقر بين عمامته وأذنه فتحضر أغنية “والأخضري من العدين بكر مشدته بيضاء ومشقره أخضر” فتخطر في بالك أن الشاعر عندما كتب الكلمات كان يكمن هنا.

تجارة القوافل

في العدين لا تحتاج إلى مرشد للتعرف عليها فالطبيعة هي من تقوم بذلك. تناولت قهوة من البن العديني فاستجمعت تاريخها، فمن قبل الإسلام كانت العدين تلعب دورًا هامًا في خط التجارة العربية التي تمر من عدن إلى صنعاء ثم إلى يثرب وبلاد الشام، فكانت القوافل تقف في سمسرة تسمى العدين لأخذ الراحة ثم مواصلة الرحلة، وذلك لموقعها في منتصف الطريق التجاري الذي يعرف بدرب أسعد آنذاك، لتكتسب شهرة وأهمية مما أدى إلى التوافد إليها من كل مكان للعيش فيها وبيع الحرف والمنتجات، ففي العدين يوجد معالم أثرية كحصن يفوز الذي يعود تاريخه إلى القرن السادس الهجري وقد بناه السلطان “وائل بن عيسى الحميري” ويوجد مسجد السلطان “أسعد الحميري” الذي يعود تاريخه إلى القرن الخامس الهجري وهذا يدل على عراقة وقدم هذه المديرية.

عودين

كان الفتى يستجمع كل ما يدور، فأوقفه مرشد هناك ليخبره عن سبب تسمية العدين، فيقول أنها نسبة لوجود عودي القات والبن لذلك تسمى عودين، ومع مرور الزمن تحول الاسم إلى العدين. وهناك رواية أخرى تقول أنها جاءت من ذي عينة نسبة للسيدة التي كانت تسكن فيها وتعمل لدى الملكة أروى بنت أحمد الصليحي.

ركب الفتى السيارة وكله حزن لمغادرة المكان الذي أسره، فترك روحه تعيش هناك وعقله ما زال يفكر كيف يستعيد روحه، فظل يبحث عن مخرج ولكن دون جدوى، فسمع لحنًا حزينًا ينبعث من السيارة “من العدين يالله بريح جلاب ولا سحاب تندي علوم الأحباب” ليتبين أن الأحباب هي الأرواح التي علقت هناك ولم تستطع المغادرة بسبب جمال الطبيعة الذي لا ينتهي.

عزف الطيور

“وامغرد بوادي الدور من فوق الأغصان” هذه الأغنية الشهيرة التي عزفها الفنان الكبير “أبو بكر سالم” بلحن ينادي عشاق الطبيعة للاستمتاع بمشاهدة الطيور النادرة في وادي الدور وهي تعزف الألحان لاستقبال الزوار فتسرقك بجمالها وتذهب معك في كل أرجاء الوادي، فتسمع دوي خفيف نحل تجمع رحيقها لتنتج أجود انواع العسل، أرض مستوية يتوزع فيها الجمال بدرجة متساوية، مزارع الفواكه هنا ومزارع الذرة هناك، ماء جارٍ يسابق الزمن، أرنب بري يخطف الأنظار، إبل تقطع الطريق فيتسارع الزوار والمسافرين في شراء حليبها. غادرنا والجميع ما زال متجه بأنظاره نحو الوادي والفتى القروي يستجمع كل ما رآه ويردد “أي حين شا تخَطَّر بين تلك المناظر، هو قريب ذا على الله إن يقل له يكن كان”.

الملف الشخصي للكاتب

أسامة عبدالرقيب
كاتب

Scroll to Top