“لقد تقولب دوري في هذه الحياة. أنا، كفرد، مجرد خنزير، وأنا، كجماعة، حالة ذات قيمة تجارية وسياحية وزعامية” هكذا يقول الكاتب غسّان كنفاني على لسان شاب فر من النافذة في إحدى قصصه القصيرة، التي تعبّر عن حال الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة.
تتناول قصص وروايات غسّان كنفاني العديد من القضايا التي تتعلق بالشأن الفلسطيني منذ بداية الاحتلال، وتركز على الكثير من الجوانب المتعلقة بالإنسان والوطن في الأرض المحتلة، حيث يبرز الكاتب من خلال تجربته القصصية الواقع بطريقة تشد اهتمام القارئ وتلبث في ذاكرته، من خلال بلوَرة العالم الواقعي هناك في مجموعة من الصور المعبرة ذات الدلالات العميقة والأبعاد النفسية المختلفة بما يساعد في إيصال صوت القضية إلى عوالم أبعد.
في المجموعة القصصية “أرض البرتقال الحزين” يفتتح الكاتب بقصة قصيرة عنوانها “أبعد من الحدود” حيث يبدو العنوان لوهلة أن ما ستقوله القصة لن يتقيد بنافذة واحدة مفتوحة في غرفة التحقيق أو شاب بائس اعتاد القدوم بغير دعوة أو شرطي محقق أو طفل صغير يرغي في الغرفة المجاورة، وإنما تمضي إلى ما هو أبعد من ذلك، فهي تربط بين مجموعة من العناصر الحية وغير الحية والمعاني العميقة التي تعبر عن الواقع الفلسطيني والعربي في آنٍ واحد.
بطل القصة شاب بسيط من أبناء المخيمات، إلا أنه يملك من الوعي السياسي ما يجعله يدرك أبعاد الواقع المحيط به، وهو مندفع في سبيل ذلك الإدراك لدرجة أن يسكب الحليب على رأس موظف في وكالة الغوث، ويصرخ في وجهه: “إنني لا أريد بيع وطني.” وهو يعرف حجم الإذلال الذي تفرضه عليهم المنظمات حسبما تمليه سياسات خارجية كل غرضها هو تهميش القضية الفلسطينية وتذويب الشعب الفلسطيني وحرمانه من أبسط حقوقه، بما في ذلك الوعي الذي يملكه تجاه ما يحدث، بالإضافة إلى حرمانه من الإرادة الحرة في التصرف، ومثال ذلك حبس الشاب في زنزانة مغلقة وإرغامه على الاعتراف بأن ما قام به كان بدون وعي وفي لحظة جنون، ولكن الشاب – ورغم أنه يدرك أنه لم يكن واعيًا لحظتذاك – إلا أنه يعاند أكثر ليعترف بعكس ذلك، بل ويصفها مؤكدا: قد كانت لحظة العقل الوحيدة في حياتي. وبدون خوف يعترف بذلك أمام المحقق بعد أن كان قد اقتحم عليه النافذة بينما كان قد هرب بنفس الطريقة من نافذةٍ أخرى في غرفة التحقيق، وهو يشعر بالخجل بسبب ذلك، بل ويخجل لأنه أصيب بأول جرح في ساقه بينما كان يهرب من نافذة في غرفة التحقيق، وهي من الجروح التي لا تحدث كثيرًا في الحدود لأولئك الهاربين من أوطانهم.
لقد كان يهرب من التلاشي في عزلة لن ينظر إليه فيها أحد، ولكنه فضّل العودة من النافذة ليقول كل ما يملك في جعبته من الوعي بما يحدث حوله، وهو لم يعد خائفًا أكثر مما قد يحدث له، فيقف كأي فلسطيني لاجئ، شفافًا أكثر من أي وقتٍ مضى، وضعيفًا أمام تيارات الهواء الباردة، ليعبر عما لديه من الهزيمة، ب “اسمح لي أن أرتجف أمامك لبعض الوقت.” ويبرر موقفه بأنه عاجز عن إيقاف ذلك البرد، فهم – أولئك الذين يمنعونه حتى من الحركة – لن يعطونه معطفًا ليمنعوه من القيام بذلك، كون فعله ناتج عن البرد، وهو كل ما يبرز ضعفه ويشعره بالحاجة للآخرين.
ويستمر في اعترافه بالهزيمة وأنه لم يعد يملك ما يخسره أو يدافع عنه أكثر من حقه في التفكير بمصيره، فتجده يعترف بالتشرد الذي نال عائلته حتى لم يبق منها أحد ليركض إليه إذا ما شعر برغبته في الحياة، ويعترف بقلة ما يملك من الأسلحة، فيبالغ في الحديث عن أسنانه: أنا لا أحمل سلاحًا إذا كنت تعتقد أن أسناني ليست سلاحا.
ويعترف أكثر بحقوقه التي لا يملكها، كالمواطنة مثلا، فيقول: أنا لست صوتًا انتخابيًا، ولست مواطنًا بأي شكل من الأشكال، ثم يتدرج في الأمر ليعترف أنه لا يتبع أية دولة مستقلة تسأل عن مواطنيها بين الحين والآخر، وهو نتيجة ذلك ممنوع من الاحتجاج والصراخ أيضًا.
ولكن الفكرة تكبر أكثر في رأسه، فيمضي إلى ما هو أبعد من ذلك، ليسأل نفسه عن المستقبل الذي ينتظره كمحروم من كامل حقوقه، لدرجة أن يقال له خنزير، فيجد السؤال صعبًا، ولكنه أشد إلحاحًا هذه المرة، فهو مصيره الذي ينتظره لذا لا يملك من الأمر سوى أن يخضع للفكرة ويتعمق فيها، إلا أنه لفرط ما حدث له من الحرمان كغيره من اللاجئين، صار يفكر في حياته التي يمكن أن يحرمونه منها هي الأخرى، ولكنه يصر على البقاء وعدم الاستسلام للمحاولات الكبيرة في إخضاعه وتذويبه حتى التلاشي، ولأنه أضاع كامل حقوقه، لم يعد لديه من الحق سوى التفكير بالمصير.
ولكن إدراكه يصفعه بالحقيقة المرة، ثم ما يلبث أن يوجه تلك الصفعة للآخرين، وهي تنعكس عن رؤيته بما يمكن أن يحدث إذا ما استمر الوضع هكذا، فنهاية هذا الضعف والانكسار معروفة.
الشعب المنكسر الذي فقد أبسط حقوقه – وبالاعتماد على هذا الواقع – لن يستطيع أبدا أن يصنع رؤيته الخاصة في المستقبل، لا يمكنه أن يفكر بنهاية مناسبة لكل هذه المتاهات المتشابكة، كونه شعب صار مع مرور الوقت مجرد أكتاف يتسلق عليها الآخرون للحصول على السلطة والمال وشفقة العالم، وشمّاعات يعلقون عليها أخطاءهم أمام شعوبهم ويبررون لأنفسهم أنهم بريئون من كل شيء، وهم أكثر من ذلك، يخففون عن أصحاب السلطة عناء التنكيل بشعوبهم، فهم بضرب وسجن فلسطيني واحد، يمكنهم تربية ألف آخرين ومنعهم من القيام بأي شيء يمس مصالحهم الخاصة.
ويستمر الكاتب في إيصال ما لديه على لسان الشاب، فيبرر للعالم الضعف الذي أصاب قضيته الأم، مبرزًا أن ما يحدث من إرهاصات ومحاولة سد ثغرات تتعلق بالقضية، لا يمت للمستقبل الفلسطيني بأية صلة، والشعب أكثر من ذلك محروم حتى من التفكير بالأيام القادمة وما ستؤول إليه الأمم، ويهدد بشكل غير مباشر: أية حياة هذه، الموت أفضل منها. وهكذا يسترسل في الفكرة أكثر، فيقول على لسان النموذج الذي ابتكره كبطل للقصة: إن الناس لا يحبون الموت، ولأنهم كذلك، يمكن أن يفكروا بشيء آخر.
وهكذا يبني الكاتب القصة بالاستدلال على وقائع حقيقية، فيبرز الأسباب التي أدت إلى ضعف الأمل بالمستقبل المشرق للفلسطينيين، ويتدرج في سرد أفكاره معتمدًا على الأسلوب غير المباشر في معاتبة العالم وتبرير موقفه كمواطن حر على لسان شاب بسيط هو النموذج عن كل الأحرار الذين يفكرون بعالم أفضل.