Image

فيروز.. حكايات العابرين

تمثل أغاني فيروز مزيجا من الشعر والحكاية في انسجام عجيب، جمع صوتها العذب بين الدفء والإحساس المرهف والعمق ما مكنها من امتلاك قلوب الجماهير.

مرت فيروز بكل حياتنا وتقلباتها، الحب والكره، السلم والحرب، قصة ” أنا وشادي” كانت في وجدان المتحاربين لعنة تطاردهم، وقهراً لأهل الطفل شادي وأمثاله من الضحايا في كل أزمنة الحروب والأزمات، “يوم من الأيام ولعت الدني..ناس ضد ناس..علقوا بها الدني” وكانت النتيجة أن راح ضحيتها الطفل شادي.

في ملحمتها الخالدة ” زهرة المدائن” أرخت بصوتها  سقوط البشرية في أتون حرب لا تنتهي بسقوط مدينة القدس،  و”حين هوت مدينة القدس تراجع الحب وفي قلوب الدنيا استوطنت الحرب”.

لا تجتمع النقائض إلا في أغانيها فتصبح لها قوة وروعة “كتبنا وما كتبنا”، “تعَ ولا تجي”، أي تعال وفي نفس الوقت “لا تجي”، قمة الشعور بلذة الألم من القرب والبعد في ذات الوقت.

حتى تعريف الأشياء البسيطة كان لها إحساس مرهف في أغانيها ” طيري يا طيارة يا ورق وخيطان” هي طيارة ورقية للعب لكن صوت فيروز الدافئ جعل لها قيمة ورسالة وعمل وقبل هذا كله جمال منقطع النظير.

“كيفك” ليست أغنية، بل هاجس أم وإحساسها بمصير ابنتها حين تتعلق بشاب لا يقدرها ولن يكون من نصيبها “تذكر كان فيه واحدة متضايق منها.. هيدا أمي تٌعتر همي”، بعد عتاب جميل واستغراب ” قال عم بيقولوا صار عندك أولاد أنا والله كنت مفكرتك براة البلاد” نقطة وانتهت القصة التي حاولت الأم أن تحكيها لابنتها قبل أن تغرق في انتظار المجهول.

أما حكايات الانتظار فما أكثرها في قاموس الرحبانية، وكل حكاية لها مذاق خاص “نطرتك بالصيف، نطرتك بالشتا” تمر الفصول دون لقاء، وكأن كل بداية لا بد لها من وقفة طويلة حتى تستبين الطريق.

أديش في ناس عالمفرق تنطر ناس، وتشتي الدني، ويحملوا الشمسية، وأنا في أيام الصحو ماحدا نطرني” حكاية يطول فيها العتاب ويمتد الزمن “وصار لي شي مية سنة عم ألف عناوين” وفي الأخير تصل لنفس النتيجة ” وما حدا نطرني”.

لم تكن فيروز تغني لبيروت الحزينة وحدها، بل لقلوب تحن شوقا لحكاياتهم التي ترويها بصوتها العذب، وأصابع أيديهم على الزناد في تناقض عجيب، لقد كان صوتها يجمع المتحاربين، فأينما غنت تجد جمهورها من كل الطوائف والفرق، وأينما كانوا في لبنان أو خارجه، ففيروز هي صباحات كل لبناني.

وحين تصالح فرقاء الحرب، صدح صوتها بقوة الانتصار: “طلعنا على الضو طلعنا على الريح طلعنا على الشمس طلعنا على الحرية يا حرية يا زهرة نارية يا طفلة وحشية.. يا حرية” كيف تكون الحرية زهرة نارية وقطة وحشية، ما هو القاسم بينهما؟ وحدها فيروز من يجعل الحرية شيء ملموس يمشي ويتحرك.

كانت هذه الأغنية هي هديتها لبيروت التي شهدت حربا ضروسا على مدى 15 عاما بين الأخوة الأشقاء.

عملت أغاني فيروز على تهذيب المشاعر وتهذيب ذائقة السماع لدى جمهورها الكبير، لذلك لم يكن غريبا أن يطلق عليها الكثير من الألقاب التي استحقتها عن جدارة: العمود السابع لبعلبك، جارة القمر، سفيرتنا إلى النجوم، عصفورة الشرق، أرزة لبنان، أسطورة العرب، ياسمينة الشام، ملكة الغناء العربي، الصوت الساحر، سيدة الصباح، صوت الأوطان، الصوت الملائكي.

الملف الشخصي للكاتب

صباح الخيشني

Scroll to Top