كلما شاهدت صورة لشهارة أستحضر روائح أحجارها، للحجارة رائحة، وللماء رائحة، حتى وإن قال مدرس العلوم غير ذلك، لا أشعر في أزقتها برهاب الأماكن الضيقة، بقدر ما أتمنى أن ألتحم بجدرانها وأرتدي أحجارها لأصبح كأولئك العمالقة الحجريين في فيلم “نوح”. فلا يليق بهذه المدينة سوى الأساطير، لا أكتب عن شهارة لأنها تنام فوق الغيم، وتحدِّق في التاريخ كأنه طفل قادم من بعيد..
ارتباطي بها روحي ووجداني.. أشعر بالضعف أمام دهشتها وجلالها، أقول لبعضهم إنني سأعود للعيش فيها، فيقلِّبون أكفهم ويتعجبون من كلامي: كيف تعيش فيها ولم يعد لك فيها أقارب ولا أهل؟
لديَّ ذكرياتي، وخطوات أبي، ورائحة بيتنا.. لديَّ آية الكرسي المكتوبة على منبر الجامع الكبير بالخط الأزرق.. لديَّ رائحة السوق، وورد الليل، وصيدلية أبي المغلقة منذ ربع قرن.. لديَّ بركة الحسني، والناصرة، والحياف، والخوَّار، وجسر شهارة، والشاعرة زينب الشهارية التي لم تمحها أربعمائة وخمسون عاماً من الموت.
لديَّ من الروائح ما يكفي لأتنفس بها مائة عام: رائحة قاز النوَّارة، ورائحة كبش العيد، ورائحة جدتي التي تشبه الأناناس، ورائحة حناء أمي.. حتى الصَّبَرة الحديد التي كنا نغلق بها باب البيت أشم رائحتها الآن في يدي، ورائحة بارود الطمش الذي كان ينفجر في يدي الصغيرة.. وكانت أعظم الروائح رائحة الذمول والمحشوش.
وأنت في شهارة تظلُّ بين دهشة وشهقة.. كأنك تطلُّ على أزمنة وعصور، كأن التاريخ تحول إلى كتاب بين يديك، وتقرأه حجراً وشجراً ومطراً وبشراً، وحين تقف على جسر شهارة، يصبح للهاوية معنى مختلف، لا تستطيع القصائد تصويره.